الذهب الأبيض.. حكاية السكر
أُطلق اسم الذهب الأبيض على السكر نظراً إلى الأرباح الهائلة التي تدرها تجارته. وقد كانت زيادة تجارة السكر من الأسباب التي أدت إلى رواج تجارة العبيد
أُطلق اسم الذهب الأبيض على السكر نظراً إلى الأرباح الهائلة التي تدرها تجارته. وقد كانت زيادة تجارة السكر من الأسباب التي أدت إلى رواج تجارة العبيد.
وفي يومنا هذا يوصي كل شخص تقريباً بالابتعاد عن السموم البيضاء الثلاثة الملح، والسكر، والدقيق. بالطبع لديهم بعض الحق في ذلك. إلا أن الحياة بدون هؤلاء الثلاثة صعبة جداً.
عسل بدون نحل
كان العسل في السابق يستخرج من النبات الاستوائي الذي يسمى "قصب السكر". كان يصل طوله إلى عشرة أمتار ويحتوي على 20 إلى 25 % سكر. ويُعتقد أنه جاء إلى الهند أول مرة من بولينزيا. وقد اكتشفه الحاكم الفارسي دارا (داريوس) الذي احتل الهند عام 510 قبل الميلاد. وانتشر كثيراً هذا القصب الذي يعطي "عسلاً بدون نحل". وتعرف عليه العرب الذين فتحوا إيران، وزرعوه وحولوه إلى صناعة كبيرة.
وقد عرفت أوروبا السكر من الشرق مثل العديد من الأشياء التي تعلمها الغرب من الشرق. وقد حكى الصليبيون كثيراً عن قصب السكر المزروع في مصر وقبرص عند عودتهم من الحملات الصليبية. وقد لعبت قبرص دور محطة التوزيع في معرفة الغرب بالسكر. من هناك وصل إلى صقلية والأندلس وعن طريقهما وصل السكر إلى أوروبا. ومن أوروبا وصل إلى أمريكا عبر جزر الكناري. وفي القرن السادس عشر أصبح السكر سلعة تجارية.
كلمة سكر بالتركية "شَكر" وتعني في اللغة السنسكريتية "الحصى الصغير" وهي مشتقة من كلمة "سركارا" التي تستخدم حالياً أيضاً بمعنى السكر. انتقلت الكلمة من الهندية السنسكريتية إلى العربية ومنها إلى اللغات الأوروبية: (مثلاً في الفرنسية sucre (سوكر)، وفي الإنجليزية sugar (شوجار)، وفي الإيطالية zucchero (سوكيرو) وغيرها من اللغات. كما انتقلت كلمة "كاند" وتعني في الفارسية "قطع السكر" إلى اللغات الأوروبية أيضاً (في الإنكليزية Candy (كاندي). ويطلق الأتراك على الخليط المكون من الماء المغلي بالسكر ومعه الليمون اسم "كاند".
الذهب الأبيض
عام 1309 كان سعر رطل السكر في لندن شلنين أي ما يعادل الراتب الشهري للعمال. ولذلك كان السكر يُعطى فقط للمرضى كي يستعيدوا قواهم. كما كان يزين موائد الأغنياء. عندما زار ملك فرنسا هنري الثالث ، فينيسيا نُظم على شرفه حفل كبير وكانت كل الموائد والأطباق في الحفل مملوءة بالسكر.
وكانت فينيسيا أيضاً هي مركز السكر المكرر. وعندما ذهب فاسكو دي جاما إلى الهند بدأ بتجارة السكر تم كسر احتكار فينيسيا لتجارته.
قام كريستوفر كولومبوس بإحضار قصب السكر إلى جزر الكاريبي وقام بزراعته هناك حيث كان المناخ ملائماً لزراعته. وتحولت الجزر إلى حقول كبيرة لزراعة قصب السكر. وأصبحت تغطي كامل احتياجات أوروبا من السكر. وتم إحضار عمال من كل أنحاء العالم للعمل هناك وكان ذلك بداية ومنشأ تجارة العبيد.
في أواسط القرن السابع عشر كان كل العالم قد عرف السكر. وأصبح شرب القهوة والكاكاو مع السكر من العادات الرائجة بين الأغنياء. وكان من يتاجر بالسكر يحقق أرباحاً هائلة ولذلك أطلقوا عليه الذهب الأبيض.
عندما حاصر نابليون الأول قارة أوروبا وأغلق طرق دخول السكر بدأ الأوروبيون يبحثون عن مصادر جديدة له. واكتشف عالم ألماني يُدعى مارغراف أنه يمكن الحصول على المادة الحلوة المذاق الموجودة في البنجر الأبيض على شكل بلورات صغيرة وأن هذه المادة يمكن أن تكون معادلاً للسكر. وقام أحد تلامذته ويدعى أكارد بتطبيق ذلك عملياً وأسس أول مصنع للسكر عام 1802 في سيليزيا السفلى. وتمكن مارغارف من استخراج 1% من السكر الموجود في البنجر بينما تمكن تلميذه من استخراج 4,5 %. وتصل هذه النسبة في يومنا هذا إلى 15 -24%. ولكن لا تزال النسبة الأكبر من احتياج العالم من السكر تستخرج من قصب السكر إذ يستخرج منه ثلثا احتياج العالم من الذهب الأبيض.
السكر العثماني
كان العثمانيون في ذلك الوقت يحضرون السكر من قبرص التي كانت آنذاك في قبضة أهل البندقية. وتتحدث المصادر عن السكر الذي ألقي على الناس وبُعثر في عُرس السلطان يلدريم بايزيد عام 1382. وبعد فتح مصر وقبرص تحولت الدولة العثمانية من مستورد للسكر إلى منتج له بل أصبحت حتى تصدر السكر إلى الدول الأخرى.
وكان قصب السكر يزرع في الإسكندرية وكريت وطرابلس الشام ودمشق وصيدا وبيروت وحلب وآلانيا وسيليفكا وطرسوس وأضنا وأنطاكيا.
كان السكر يتم تصنيعه من "قصب السكر" في مصانع تسمى "سكر خانه" وكان يصنع على شكل مكعبات أو قطع أو في شكله المألوف حالياً (سنترفيش). ويفهم من ذلك مدى خطأ المقولة التي قالها أحد السياسيين الأتراك في العصر الحديث والتي قال فيها "إن الدولة العثمانية لم تكن تستطيع إنتاج حتى كيلوغرام واحد من السكر".
كان هناك العديد من مصانع السكر في الدولة العثمانية. كان السكر سلعة غالية الثمن ولكنه كان متوافراً بالأسواق.
كان السكر القادم من قبرص مخصصاً فقط للقصر العثماني والسكر القادم من بقية الأماكن يوزع في البلاد. ويقول الرحالة أوليا جلبي إنه كان هناك 200 مصنع للسكر في مصر تعود ملكيتها لحوالي 40 دولة. وأصبحت الدولة العثمانية من أهم المراكز لتجارة السكر المربحة. وكانت تصدر السكر إلى روسيا عبر شبه جزيرة القرم.
كان السوق المصري في إسطنبول مثل بورصة السكر. وكان هناك في إسطنبول وحدها 70 دكاناً لبيع السكر. وكان السكر يباع أيضاً لدى العطارين وفي الصيدليات نظراً إلى أنه كان يعد علاجاً أيضاً. وكان هناك "أمين السكر" وهو موظف يتم تعيينه لضمان تلبية احتياجات المواطنين من السكر بعدالة ولمكافحة الاستغلال. ونظراً إلى أن السكر أصبح من الاحتياجات الأساسية قامت الدولة بتحديد تسعيرة ثابتة لبيعه. وظهر أيضاً مهربو السكر وكانت الدولة تكافحهم.
مع مرور الوقت تقدمت أمريكا وأوروبا على الدولة العثمانية في صناعة السكر. وذلك لأن الوقود كان شرطاً أساسياً في صناعة السكر. وكانت مصر وقبرص تفتقران إلى وجود الغابات على الرغم من وفرة المياه بهما. كما أن المزارعين كانوا يفضلون زراعة القطن والزيتون والقمح لأنها تدر ربحاً أكثر. ولذلك بدأ استيراد السكر من أوروبا لمواجهة الاحتياج المتزايد وعدم ظهور السوق السوداء.
لا يقتصر السكر في الثقافة التركية على كونه طعاماً فقط. بل يحتل أيضاً مكانة رمزية في المراسم والاحتفالات. فعند الذهاب للتقدم لطلب يد فتاة يأخذ المتقدم معه حلوى اللقوم (راحة الحلقوم)، وعندما يوافق أهل العروس يقومون بشرب "الشربات". وفي عقد القران تُوزع الحلوى، وأثناء الزفاف يتم نثر السكر فوق رؤوس المدعوين. حتى في اللقاءات الدولية كانت الأطراف تهدي بعضها بعضاً السكر.
كان السكر والمأكولات المصنوعة منه دائماً رمزاً للرخاء والبركة. ويخاطب الإنسان من يحبه في تركيا بـ" شكريم" وتعني (سكري). ويقال للشخص الجيد "رجل مثل السكر" كان للسكر قيمة كبيرة. وفي بعض كتب الدين في باب النفقة نجد شرط أن يطعم الرجل زوجته الحلوى مرة في الأسبوع على الأقل
ذات مرة كان الديكتاتور اليوغسلافي تيتو يتجول في أوسكوب فسأل رجلاً مسناً "قل لي هل عهدي أفضل أم العهد السابق؟." فأجابه الرجل بصراحة وذكاء قائلاً: "في عهد القيصر حميد كنا نشتري السكر بالقطعة (قطعة تشبه السبيكة) ثم جاء الملك ألكسندر فأصبحنا نشتريه بالكيلو. في عهدكم أنتم لا نجد حتى غراماً واحداً منه."
أسس أول مصنع للسكر في عهد الجمهورية عام 1926 بمبادرة خاصة. وفي عام 1935 تم تأميم كل مصانع السكر في البلاد. وفي عهد الحزب الواحد حتى عام 1950 لم يكن السكر يوجد بسهولة، علاوة على ارتفاع ثمنه. وكان الشعب يشرب الشاي مع العنب المجفف. ويصنعون الحلوى بالعسل الأسود. وفي عام 1980 بدأت خصخصة مصانع السكر مرة أخرى.
Önceki Yazılar
-
القدس في قلوبنا16.12.2017
-
حُبّ القطط من الإيمان8.12.2017
-
قوانين الشريعة في الاتحاد الأوروبي26.11.2017
-
من لا يجد الخبز فليأكل الكعك!.. حكاية سيد الموائد19.11.2017
-
خدمات العثمانيين في الأراضي المقدسة12.11.2017
-
البريد في الدولة العثمانية.. من إسطنبول إلى بغداد في 14 يوماً4.11.2017
-
الحياة الاقتصادية في الدولة العثمانية27.10.2017
-
عقدالزواج في الإسلام21.10.2017
-
اليهود في الدولة العثمانية13.10.2017
-
العثمانيون المزيفون والنبلاء الوهميون29.09.2017