من لا يجد الخبز فليأكل الكعك!.. حكاية سيد الموائد

الناس غافلون عن النعم الكثيرة التي يتمتعون بها. مثلاً لا يدركون قيمة الخبز إلا في وقت الحرب. وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق هربرت هووفر " في الحروب تكون الكلمة الأولى للمدافع، أما الكلمة الأخيرة فتكون للخبز
19 Kasım 2017 Pazar
19.11.2017

 

الناس غافلون عن النعم الكثيرة التي يتمتعون بها. مثلاً لا يدركون قيمة الخبز إلا في وقت الحرب. وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق هربرت هووفر " في الحروب تكون الكلمة الأولى للمدافع، أما الكلمة الأخيرة فتكون للخبز

 ذات يوم طلب أحد المسافرين على متن طائرة ما أن تحضر له المضيفة خبزاً فسألته المضيفة "هل أنت تركي؟" تعجب الرجل وسألها كيف عرفت فأجابته "لأنك طلبت المزيد من الخبز، والأتراك يحبون الخبز كثيراً." فقال الرجل ماذا عسانا أن نفعل؟ نحن الأتراك لا نشبع دون أن نأكل الخبز.

أنواع متعددة من الخبز

شكل القمح ومشتقاته أساس الغذاء في كل الحقب التاريخية وفي كل مكان في العالم. خصوصاً في الشرق حيث يعتبر القمح هو "سيد المطبخ" وزراعة القمح منتشرة جداً في الشرق. ولا يصنع الدقيق والخبز من القمح فحسب بل أيضاً من الشعير والذرة والجاودار. ولكن يبقى خبز القمح هو الأفضل بينها.

هناك أنواع متعددة من الخبز سواء من ناحية الشكل أو طريقة التحضير. والقدرة على عمل الخبز في المنزل مزية كبيرة لا يتمتع بها إلا القليلون. خاصة في الأوقات والظروف الصعبة مثل أوقات الحرب فإن عمل الخبز في المنزل مزية وفائدة كبيرة. في أيام الحرب العالمية الثانية وعندما كان الناس في إسطنبول لا يستطيعون شراء الخبز إلا بمستندات رسمية كان أهل الأناضول يستمتعون بأكل الخبز كما يحلو لهم.

الخبز أفضل شيء يمكن أن يؤكل مع الأطعمة الأخرى مثل الجبن والحلوى وما إلى ذلك. والخبز المقطع في اللبن هو طعام يفضله الفقراء في الفطور. وهناك أيضاً حلوى الخبز وهي من الحلويات سهلة الصنع وتصنع من الخبز والبيض وتُقلى في الزيت بعد ذلك يضاف إليها السكر أو العسل.

عندما كان القمح نادراً وغالي الثمن كان خبز القمح هو طعام الأغنياء بينما كان الفقراء يأكلون خبز الشعير والجاودار. وتغير الزمان وأصبح الأغنياء يفضلون خبز الشعير والجاودار لأسباب صحية.

وهناك البقسماط الذي يصنع من القمح عالي الجودة على شكل قطع من الخبز، وهو مفيد كثيراً في السفر وأوقات الحرب نظراً إلى سهولة تخزينه وإمكانية المحافظة عليه لفترات طويلة. ويرجع أصل تسميته إلى الكلمة الفارسية "بك سماط" وتعني الخبز الجاف. ويعرف اليونانيون أيضاً البقسماط. ويُقدم في الغالب إلى الجنود، ويؤكل مع الأطعمة المسبكة (الطبيخ).

طعام مقدس

الخبز غذاء مقدس. وإذا وجد التركي كسرة خبز على الأرض فإنه يأخذها ويقبّلها، ثم يضعها في مكان عال. وقد كان الخبز يُذكر في السابق مقترناً بصفة "عزيز"

عندما خرج اليهود من مصر لم يكن معهم "خميرة" لذلك صنعوا خبزهم بدون الخميرة ولا يزالون يحيون هذه الذكرى في عيد الفصح.

كما يحتل الخبز مكانة في قداس أفخارستيا لأنهم يعتقدون أن عيسى بن مريم عليه السلام قدس الخبز. حتى إنه حدثت مناقشات حادة داخل الكنيسة بشأن هل يكون ذلك الخبز بالخميرة، أو بدونها.

هناك قطع من الخبز صُنعت في مصر قبل خمسة آلاف عام، محفوظة بالمتحف البريطاني في إنكلترا.

وفي غينيا هناك شجر الخبز ويثمر فاكهة طعمها بين الخبز والبطاطس. ولم يكن الوالي الإنكليزي هناك آنذاك يسمح بخروج بذور هذه الشجرة ولا حتى ثمرتها. وبعد الحرب سُمح بإعطائها فقط لتركيا ولكن لم تسفر التجارب عن أي نتائج ولم تثمر في تركيا.

من المعروف أن أمهر الخبازين في العالم هم الهولنديون والأتراك. وفي السابق كان معظم الخبازين في تركيا من منطقة البحر الأسود. وكانوا يفتحون أفراناً حتى في روسيا.

وكان هناك من يهتمون بأنواع ومذاق الخبز مثلما هناك من يهتمون بمذاق المياه. وكان الأناس الذين يهتمون كثيراً بالطعم لا يتكاسلون عن الذهاب إلى الأفران الشهيرة في الأحياء البعيدة لشراء الخبز المطهو جيداً والمخبوز على نيران الحطب.

الكلمة الأخيرة للخبز

اشتهرت كثيراً مقولة " من لا يجد الخبز فليأكل الكعك" المنسوبة إلى ملكة فرنسا ماري أنطوانيت إلا أنها في الأصل قد وردت في رواية للكاتب الفرنسي " لا برويير" والناس غافلون عن إدراك قيمة النعم الكثيرة التي يتمتعون بها. كذلك قيمة الخبز لا تُدرك إلا في وقت الحرب. وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق هربرت هووفر " في الحروب تكون الكلمة الأولى للمدافع، أما الكلمة الأخيرة فتكون للخبز".

في القرن السادس عشر وصل عدد سكان إسطنبول إلى أكثر من مئة ألف نسمة ما يعني الحاجة إلى 35- 40 طن من القمح يومياً. وفي عام 1621 عندما ضرب إسطنبول شتاء قارص تجمد بسببه مضيق البوسفور وصل سعر كيلو الخبز إلى 60 أقجة. وعام 1828 أُغلقت الطرق بسبب الحرب مع روسيا ولم تعد الحبوب والغلال تصل إلى إسطنبول. وقد أجري وقتها أول تعداد للسكان في المدينة بهدف تحديد مقدار احتياجها من الخبز. وقد تم إحصاء 360 ألف نسمة في المدينة.

قبل الحرب كان يتم إعطاء 900 طن من القمح يومياً إلى المخابز. وكان احتياج الجيش من القمح آنذاك كبيراً جداً. فحاولت الحكومة إحضار القمح من الأناضول. على سبيل المثال: طلبت الحكومة من ولاية قيصري حمولة ثلاثة آلاف جمل محملة بالقمح، غير أنه في ذلك الوقت لم يكن في عموم ولاية قيصري سوى ثلاثمئة جمل فقط. وفشلت محاولة الحكومة في إحضار القمح من هناك.

بعد ذلك حاولت الحكومة استخدام الحبوب والغلال المخزنة في حي "تشوكور بوستان" بإسطنبول. كان يجب تجديد المخزون كل سنة إلا أنه لم يُجدد في تلك السنة ولذلك فسد معظمه أو تيبس وأصبح غير صالح للاستخدام. تم إرسال الذرة والجاودار والشعير الموجودة بالمخزن إلى المطاحن وصُنع منها الدقيق. وصنع منه الخبز ثم وزع على الأهالي أمام الجوامع والكنائس والمعابد اليهودية تحت رقابة الجنود.

ومرض كل من أكل من هذا الخبز الذي يصوره المؤرخ لطفي أفندي بقوله " كان كل رغيف منه في سمك قبضة اليد، شديد السواد. لا يمكن أكله أو بلعه." وأصبح الخبز الأبيض وقتها هو أكثر شيء ذي قيمة يمكن الحصول عليه.

الخبز بالوثائق

في الحرب العالمية الأولى كان الخبز يُصرف بمستندات خاصة وانخفضت جودته كثيراً. وكان يتم جمع الذرة والبذور والقليل من القمح ثم يتم طحنها وصنع الخبز منها. وكان يخبز داخل صينيات الطعام لأنه كان يتبعثر داخل الفرن نظراً إلى رداءته. وعندما لم يكف ذلك أيضاً تم خلطه مع مادة أخرى لم يفصح أحد عنها. وبعد مدة طويلة اتضح أن هذه المادة هي طين يأتي من منطقة "كاغيت خانه" في إسطنبول ويستخدم في صناعة الطوب والقرميد. ويقال إن الصدر الأعظم في ذلك الوقت طلعت باشا كان يأكل من ذلك الخبز بينما كان أنور باشا يطعمه لحصانه "فرانجا" الذي كان يحبه كثيراً.

لم تشارك تركيا في الحرب العالمية الثانية ولكن بالرغم من ذلك دائماً ما كان الجيش التركي في حروب. علاوة على أنه كانت هناك مجاعة. ولذلك احتفظت الحكومة بالقسم الكبير من المحاصيل. وأصبح الخبز لا يُصرف إلا بوثيقة معينة وانخفضت جودته أكثر. حتى 9 مايو/أيار عام 1942 كان يتم صرف 300 غرام للشخص وبعد هذا التاريخ انخفضت الحصة إلى النصف. ولجأ الشعب إلى الحمص حتى يسدوا جوعهم. وأصبحت كل المعاملات تتم باستخدام الحمص من دفع حساب المقهى وحتى شراء الأطعمة. في بداية الحرب اشترى هتلر من تركيا كميات كبيرة من الحبوب والغلال ودفع مبلغاً كبيراً مقابل ذلك. ولحسن الحظ لم يقترب من الحمص.

استمر تطبيق صرف الخبز بالبطاقة حتى أواسط عام 1946. ومن كان لديهم أقرباء في القرى كانوا يذهبون إليهم ويأكلون الخبز كما يحلو لهم. ولم يكن الخبز فقط هو الشيء الوحيد الذي يصرف مقابل الوثيقة بل كان الدقيق والسكر والكيروسين والقماش تصرف بالطريقة نفسها. ومن لم يكن لديه هذه الوثيقة كان يضطر إلى شراء هذه السلع من السوق السوداء ويضطر إلى دفع 100 قرش من أجل رغيف الخبز الذي يساوي 18 قرشاً.

كانت هذه الوثائق توزع من قبل مخاتير القرى والأحياء. وكان الزحام والصفوف أمام الأفران ومشهد المواطنين الذين ينظرون بيأس إلى الخبز الذي سيأخذونه إلى أطفالهم تشكل المناظر المؤلمة في تاريخنا القريب. وكان هناك من يبيعون هذه الوثائق من شدة فقرهم واحتياجهم إلى النقود. وكانت المحاصيل تُجمع من المواطنين بدون مقابل أو مقابل مبلغ ضئيل جداً. ولأن معظم هذه المحاصيل لم يُستخدم أو لم يتم نقله بطريقة صحيحة فسد معظمه في المخازن. وتم إلقاؤه في البحر بينما اكتفى الشعب الذي يعاني الجوع بمشاهدة ذلك المنظر فقط.