خدمات العثمانيين في الأراضي المقدسة

أثناء عودة السلطان سليم الاول (ياووز سليم) بعد فتح مصر وأثناء حضوره صلاة الجمعة قال الخطيب عند ذكر اسم السلطان "حاكم الحرمين الشريفين" فاعترض السلطان سليم على ذلك وأمره أن يقول خادم الحرمين الشريفين وليس حاكم الحرمين
12 Kasım 2017 Pazar
12.11.2017

 

أثناء عودة السلطان سليم الاول (ياووز سليم) بعد فتح مصر وأثناء حضوره صلاة الجمعة قال الخطيب عند ذكر اسم السلطان "حاكم الحرمين الشريفين" فاعترض السلطان سليم على ذلك وأمره أن يقول خادم الحرمين الشريفين وليس حاكم الحرمين.

ويرجع اهتمام السلاطين العثمانيين بمكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف أكثر الأماكن تقديساً عند المسلمين، إلى أزمان بعيدة. فبينما كانت منطقة الحجاز لا تزال تحت حكم المماليك بدأ السلطان العثماني محمد جلبي (محمد الأول) تقليد إرسال موكب "الصرة الهمايونية" إلى الحجاز.

في كل سنة كان الموكب ينطلق من إسطنبول بصحبة موظفين رسميين إلى الأراضي المباركة محملاً بالهدايا والأشياء القيمة من شمعدانات وستائر إضافة إلى هدايا إلى علماء الحجاز وأموال لتوزيعها على الفقراء هناك.

كان بعض أفراد الشعب أيضاً يرسلون الهدايا والصدقات إلى الحجاز مع موكب "الصرة الهمايونية" وكان لبعض الناس في إسطنبول فقراء بالأراضي المقدسة يدعون لهم خصيصى. كما كان المتوجهون إلى مكة لأداء فريضة الحج من أهالي الأناضول يلتحقون بالموكب في الطريق. وكان السلاطين يوكلون من يؤدي عنهم فريضة الحج، وهو عذر شرعي بسبب انشغالهم بأمور الحكم وأحوال الرعية. كان وكيل السلطان في الحج هو عادة من يترأس موكب "الصرة الهمايونية" وكان يُطلق عليه "أمين الصرة" وكان الموكب ينطلق من إسطنبول بمراسم ضخمة. وقد استمر هذا التقليد حتى عام 1916.

خادم الحرمين

بعد فتح مصر عام 1517 وتسلم مفاتيح مكة من أمير الحجاز حمل السلاطين العثمانيون وبكل فخر لقب خادم مكة والمدينة. وفي طريق العودة بعد فتح مصر وأثناء صلاة الجمعة بالجامع الكبير في الشام قال الخطيب عند ذكر اسم السلطان "حاكم الحرمين الشريفين" فقام السلطان سليم وسط الجماعة وطلب أن يصحح ذلك إلى خادم الحرمين وليس حاكم الحرمين. وحمل كل الخلفاء العثمانيين هذا اللقب وأعلنوه للدنيا في كل آثارهم.

وقد تجاوزت خدمات السلاطين العثمانيين للإسلام والحرمين الشريفين كل الخدمات التي قدمتها الدول الإسلامية والحكام المسلمين قبلهم باستثناء فترة الخلفاء الراشدين.

عندما أحضرت إحدى المكانس التي كانت تستخدم في كنس الأرض داخل الكعبة رفعها السلطان سليم على رأسه وكأنها تاج ومن هنا جاءت عادة وضع السلاطين العثمانيين من بعده ريشة فوق تاجهم.

كانت خدمات السلطان سليمان القانوني للأراضي المقدسة مثل مكة والمدينة والقدس لا نظير لها. فقد أرسل حرفيين ماهرين إلى مكة والمدينة وقاموا بتعمير سقف الكعبة المشرفة ومآذن المسجد النبوي. كما قاموا بتجديد النقوش والزخرفة الداخلية في قباب المسجد. كما أنشأ المحراب الأيمن في المسجد، وكان الإمام الحنفي لا يقف في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي في المحراب الآخر تبجيلاً للنبي صلى الله عليه وسلم. وأمر السلطان سليمان القانوني بترميم المحراب الأصلي وتعليته. كما أمر بإنشاء ضرائح في منطقة مقابر الصحابة بجانب البقيع وأُحد.

وقام السلطان سليمان القانوني أيضاً بتجديد مسجدي قباء والقبلتين. وأمر ببناء قبة فوق البيت الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وأرسل ثلاث ثريات لتضاء إحداها في ذلك البيت والأخريات في الكعبة المشرفة. وأمر بإنشاء أربع مدارس للمذاهب الأربعة في مكة المكرمة. وأمر بإنشاء مجرى مياه إلى الكعبة يتم عمله من الفضة، ولاحقاً أمر السلطان أحمد الأول بإنشائه من الذهب. كذلك أمر السلطان سليمان القانوني بتجديد بئر زمزم وتشييد حوض تجري فيه مياه البئر. ثم قام السلطان محمد الرابع بتشييد قبة فوقه. وأنشأ السلطان عبد الحميد الأول الغرفة المزينة التي كانت موجودة فوق بئر زمزم، وهدمت هذه الغرفة عام 1963.

أنشأت "هُرّم سلطان" زوجة السلطان سليمان القانوني أماكن لإطعام الفقراء في مكة والمدينة كما أنشأت مستشفى كبيراً في مكة يشبه مستشفى "هاسكي" الذي أنشأته في إسطنبول. كذلك قامت ابنة السلطان سليمان القانوني "مهرُماه سلطان" بإصلاح مجاري المياه وأوصلت المياه إلى مكة ومنطقة جبل عرفات. وواصل ابنه السلطان سليم الثاني إعمال الإصلاح والتشييد في مكة والمدينة وقام بإتمام الأروقة حول الكعبة. وتولى المعمار سنان تنفيذ المشروع.
وكان السلطان يهدي كل من يتوجه للحج عكازاً كان يصنعه بنفسه.

البناء الحالي للكعبة

أرسل السلطان مراد الثالث عام 1590 المنبر الحالي للمسجد النبوي والذي يضم 12 درجة من الرخام، من إسطنبول إلى المدينة. وقام السلطان محمد الثالث بتجديد المئذنة الموجودة فوق باب السلام بالمسجد النبوي. وشيد قبة ومئذنة فوق البيت الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم والذي تحول إلى مسجد بعد ذلك.

كانت سترة الكعبة تُرسل دائماً من القاهرة ولكن في عهد السلطان أحمد الأول بدأ إرسالها من إسطنبول كل عام وأنشأ لها ورشة خاصة بمنطقة بيلر بي في إسطنبول (حالياً يوجد بالمكان مسجد بيلر بي المعروف في إسطنبول). كما كان الشمع الخاص الذي يضاء في الحرم الشريف أيضاً يُصنع هناك. وأرسل السلطان أحمد الأول قنديلين مرصعين بالألماس لتعليقهما في المسجد الحرام والمسجد الأقصى.

تعرض بناء الكعبة لأضرار كثيرة بسبب السيل أما البناء الفخم الحالي للكعبة فقد أمر بتشييده السلطان مراد الرابع. وتخليداً لذكراه أطلق على أحد أبوابها " الباب المرادي". والباب الذي أمر السلطان مراد الرابع بصنعه للكعبة من الذهب الخالص محفوظ اليوم بمتحف مكة المكرمة. ومنع العثمانيون تشييد أي مبنى هناك أعلى من الكعبة ومن قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا السبب كان يمكن رؤية كلاهما في السابق من بعيد بمنتهى السهولة.

المولد النبوي في مكة

أمر السلطان محمد الرابع بترميم مآذن الحرم وتوسعة مكان الطواف، وفرش الأرضية بنوع خاص من الحجارة لا يتأثر بالحرارة حتى لا تصاب أرجل الحجاج أثناء الطواف. كما أمر بتعليق العديد من القناديل في الطريق من الصفا إلى المروة.

قام السلطان مصطفى الثاني بتجديد المئذنة ذات السلم المستدير المكون من 27 درجة والمحاذية للركن العراقي في الحرم. وأمر بصنع حافظة للحجر الأسود كما قام بتجديد ثلاثة من الأعمدة الستة الموجودة داخل الكعبة هي الآن في متحف مكة.

كذلك أمر بترميم مسجد قباء وإنشاء مئذنة له. وأمر بتنظيف مجاري المياه. وكان هو من بدأ تقليد قراءة المولد كل سنة في مكة. ففي ليلة المولد النبوي الشريف كان الناس يتجهون بعد صلاة العشاء للمسجد المقام مكان بيت النبي حاملين الشموع ثم يأخذون في الدعاء هناك.

وقام السلطان أحمد الثالث بتجديد أرضية مكان الطواف. وقام عبد الحميد الأول بترميم المسجد الحرام ومقام إبراهيم. كما أمر ببناء مدرسة ومكتبة في المدينة المنورة. وقام بتعليق القصيدة التي تتغنى بحب الرسول صلى الله عليه وسلم في الغرفة التي تضم قبره الشريف وقبر صاحبيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والتي يطلق عليها "حجرة السعادة". وقد نزعت هذه القصيدة عام 1922 لأنها لا توافق العقيدة الرسمية للإدارة السعودية.

القبة الخضراء

في عهد السلطان سليم الثالث ثار الوهابيون في نجد واستولوا على الحجاز وقاموا بمذابح في مكة والمدينة ولم يتركوا بها أي أبنية. وقاموا بهدم الضرائح والمساجد وأماكن الزيارة وحولوا الحرمين إلى صحراء. وكانت الحكومة العثمانية تعاني أزمات أخرى كثيرة فأوكلت مهمة قمع هذا التمرد إلى محمد علي باشا والي مصر.

وبعد أن تمت السيطرة على الوضع هناك أعاد السلطان محمود الثاني إحياء كل هذه الآثار من جديد. وأمر ببناء القبة الموجودة فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم والمصنوعة من الطوب والرصاص ويُطلق عليها القبة الخضراء. وفي عام 1918 وضع شمعدان ذهبي في "حجرة السعادة". ويعتبر الشعر الذي كتبه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة مهمة تدل على مدى تبجيل وحب السلاطين العثمانيين للنبي الكريم.

لم يجد السلطان محمود الثاني فرصة لإعادة بناء الآثار المهدمة في مكة والمدينة وذلك بسبب انشغاله بالقضاء على التمرد في مصر والمورا وحادثة الانكشارية والحرب مع روسيا وغيرها. وقام السلطان الذي أتى من بعده وهو السلطان عبد المجيد ببذل جهود كبيرة جداً لتجميل وتزيين مكة والمدينة والآثار التي شيدت هناك. والسلطان عبد المجيد هو أكثر الحكام المسلمين خدمة للحرمين الشريفين.

جهود كبيرة

قام السلطان عبد المجيد بترميمات كبيرة في الكعبة والمسجد الحرام. وقام بإعادة إنشاء المسجد النبوي من جديد طبقاً لحاله الأصلي ودون أن تتغير أماكن أعمدته ولا يزال هو القائم اليوم. ولا يزال الباب الذي أضافه إلى المسجد يحمل اسمه حتى الآن (الباب المجيدي) كما حُفرت الطغراء الخاصة به عليه. وقام السلطان عبد المجيد بترميم وتوسعة القناة المائية في المدينة المنورة "عين الأزرق".

وقام السلطان عبد المجيد بكتابة اسمه بيده أسفل الأحجار المخصوصة التي أرسلها ليتم وضعها في أرضية حجرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون اسمه أسفل أقدام الحجاج. ورفض الكلمات التي أُعدت من أجله لنقشها فوق أحد أعمدة باب السلام بالحرم وقال إن "السلطنة في الدنيا والآخرة للرسول صلى الله عليه وسلم". وأمر بوضع نموذج مصغر 53 مرة للمسجد النبوي داخل مسجد الخرقة الشريفة في إسطنبول وكان يتابع أعمال التوسعة والتجديد في المسجد النبوي من خلال التقارير التي تُقدم له ويتم شرحها على ذلك النموذج. وقد تكلفت أعمال التجديد والترميم في الحرمين الشريفين في تلك الفترة التي كانت تعاني فيها الدولة صعوبات كثيرة حوالي 700 ألف قطعة ذهبية. كما تم إنفاق 20 ألف ليرة على إعادة ترميم المسجد الأقصى. وبذلك حمل السلطان عبد المجيد لقب خليفة المسلمين وخادم الحرمين الشريفين عن جدارة واستحقاق.

قبل موت السلطان عبد المجيد بيوم واحد كان وهو في فراش المرض يستمع إلى الرسائل والطلبات المهمة التي تقرأ عليه. وعندما هم قارئ الرسائل بقراءة خطاب جاء من أهالي المدينة المنورة أمره السلطان بالانتظار حتى يعتدل في جلسته وطلب من الحاضرين أن يساعدوه على الجلوس. قائلاً "إنهم جيران النبي صلى الله عليه وسلم. وأخجل أن استمع إلى طلباتهم وأنا مستلقٍ. افعلوا كل ما يطلبونه على الفور. ولكن فلتقرؤوا لي الرسالة حتى تنال أذني البركة."

ضوضاء القطار

تجاوزت خدمات السلطان عبد الحميد الثاني لمكة والمدينة أضعاف الخدمات التي قدمت من قبله. ولم يخص الأماكن المقدسة فقط بل أوصل الخدمات والمساعدات إلى الأهالي هناك أيضاً. وقام بترميم وتزيين المسجد الحرام بطريقة تخطف الأبصار. وقام بتجديد قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأيضاً البيت الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم والبيت الذي ولدت فيه ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها.

وأنشأ شبكات المياه في منى. كما قام بتنظيف وتوسيع قنوات المياه التي أنشأها السلطان سليمان القانوني وبذلك وفر المياه بكثرة للحجاج. وأنشأ حوضاً كبيراً للمياه بالقرب من الكعبة.

أنشأ السلطان عبد الحميد خط قطار يصل حتى المدينة المنورة بهدف تسيير رحلة الحج. وأمر بكتابة اسمه تحت قضبان الخط الحديدي حتى يكون تحت أقدام الحجاج. كما أمر أن تكون ورش تصنيع الحجارة من أجل محطة القطار في المدينة المنورة خارج المدينة حتى لا يكون هناك ضوضاء وإزعاج بالقرب من قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وللسبب نفسه كان القطار يهدئ من سرعته عند دخوله المدينة. ولأنه يجب فتح البيوت في مكة للحجاج دون أخذ إيجار أو أي نقود أنشأ السلاطين العثمانيون استراحات للضيوف مخصصة للحجاج من كل البلاد وذلك حتى لا يتعرض سكان مكة للخسارة.

أُدير الحرمان الشرفان بكل احترام وعدالة من قبل العثمانيين، وأنفقت الثروات من أجل ترميم وتزيين الأماكن المقدسة. وعاش سكان مكة والمدينة في راحة ورفاهية. واستمر الحال كذلك حتى الحرب العالمية الأولى. وفي 1916 فقدت الدولة العثمانية الحجاز وشبه الجزيرة العربية.